الكاتب: د. طالب محمد كريم

ابتداء" لا اريد الخوض في العنوان الذي قد يأخذ بي الى الدخول الى حقل المعاني اللغوية والاصطلاحية وربما قد يغرق على المقالة الطابع الأكاديمي الحاد، بل سأكتب خارج النمطيات التي تمثل للكاتب وجها" آخر من الاطر التي تسجن وتكبل قلم الكتاب الى حد كبير . ان ما يمكن الاعتراف به ان ما يمارسه العالم من تطبيق للنظريات والانظمة الفكرية هي من بنات المدرسة الإغريقية والنظام الديمقراطي التي تسعى لها كل الشعوب والمجتمعات هي بحد ذاتها تاريخية/دراسة حدث تثبت قيمة الفكرة والنظرية حينما تنبثق من بيئة اجتماعية تتفهم وتدعم الحرية الفكرية.
ان الاستقلال الفكري ، مفهوم يوضح المنهج والطريق بغية الوصول الى موقف فكري مستقل نابع من الذات العاقلة المفكرة، ترسم مسارا" فكريا" ومعرفيا" جديدا" في الفكر العراقي المعاصر من خلال الفعل الفلسفي. جاءت هذه الفكرة بسبب المشاكل الجمّة التي يعيشها المجتمع العربي من جانب والمجتمع العراقي من جانب اخر، هذه المشاكل التي تعد من الاسباب الجوهرية التي ساهمت الى حد ما في اعاقة تقدم عجلة ركب العرب عن ركب الحضارة العالمي، ان انتاج الحضارة والتقدم العلمي والمعرفي على جميع الاصعدة جاء نتيجة للنهوض الفكري، ومنذ فترة ليست بقصيرة حاول مفكرو العرب المعاصرين ان يجيبوا عن سؤال موضوعي يحدد الاشكالية التي تقف وراء تخلف المجتمعات العربية وتأخرهم عن محيطهم الاجتماعي، في وقت نرى فيه كل هذا التقدم عند الاخر ، بمعنى آخر لماذا يتاخر الشرق مقابل تقدم الغرب؟
هناك من حاول ان يسهم في جهد متصل في وضع الأسس الوطيدة لمدرسة عربية/عراقية في الفكر الإنساني منبثقة من مشروع نقدي تحليلي يتجه الى الدعوة الى تكوين مجتمع عراقي جديد، بعيد كل البعد عن العنصرية والتعصب ورفض الاخر. وقد طرحت أجوبتهم وخلاصة افكارهم في العديد من الكتب والمؤلفات الرائجة هي اليوم في سوق المنتوج الثقافي. اذ يَرَوْن ان المشكلة الاساسية في الفكر العربي/العراقي هي في تعدد المواقف الفكرية ومن أهمها موقفي الاتباع والتوفيق، ان الموقفان لا يؤديان الى حل الأزمة الفكرية، ذلك ان الموقف الاتباعي يتبنى العودة الى التراث الماضوي، وأما الموقف التوفيقي فيحاول ان يجمع بين التراث والمعاصرة في انتاج موقف توفيقي جديد يصالح بين الموقفين، الا إنهما رغم كل ذلك لا يفيان بالمطلوب، ذلك إنهما لا يحاولان الإجابة عن أسئلة اليوم بادوات الحاضر، بل يحاولان ان يبحثا عن انموذج من الماضي او اقتباس قضية ما، وتقريبه من التاريخ المعاصر، وعلى الرغم من ان الموقف التوفيقي يعد أحسن حالا" من الموقف الاتباعي الا انه يظل في الاقتباس ، الا اني ارى ان الحل يكمن في اتخاذ موقف فكري مستقل عن المواقف الفكرية الاخرى، ولا يعني هذا رفض تاريخ الفكر البشري، بل تقبل هذه الافكار والنظريات وهضمها وتحويل العناصر الصالحة فيها في صناعة موقف نخبوي فكري، تصاغ له اجوبة، عن افكار تقول لنا ماهي الحياة، ما معنى الحياة، ماهي القيم الحقيقية، ما مضمون الحياة، الى اين نسير، كل ما يتضمنه فعل الحياة؟
تتناسب مع أسئلة اليوم ومتطلباتها المطروحة على الصعيد الإنساني والاجتماعي .
السؤال هنا ، هو عن الجديد، بتعبير آخر ليست هي الاسئلة التي كانت تدور حول المحور الثلاثي ( الله، الكون، الانسان) كما كانت يتداولها الفلاسفة في العصر الوسيط، هذه الاسئلة تمت الإجابة عنها وأصبحت من التاريخ البشري والاجتماعي التي استطاعت ان تكبح جماح خوف الانسان. الاّ ان الجديد اليوم هو: موقف الانسان من التقدم العلمي في جوانبه المعرفية المتعددة، واثره الكبير على التربية الاجتماعية والقيم الانسانية والوعي الإنساني ،موقف الانسان في انه انسان، ما هو مصيره، وكيف يعالج قلقه من المستقبل؟

 
يحاول البعض من اصحاب الاتجاه التوفيقي (الإصلاحي ) الموائمة بين التراث والمعاصرة من خلال التقدم والتطور الذي حصل ولازال مستمرا" في اوروبا ، وهذه تعتبر ميزة فريدة عندهم، اذ انها ميزتهم عن الاتجاه الماضوي ، لان الاتجاه الثاني همهم الاول العودة الى تاريخ التأسيس والانغلاق فيه، ورفض كل النتاجات والإبداعات الانسانية التي حصلت وأنجزت بعيدا" عن جغرافية الاسلام والمسلمين. ولعلّه هنا قد اصاب الباحث (أديب نصور) في تساؤلاته التي طرحها بمناسبة مرور مائة عام على تأسيس الجامعة الامريكية اذ يقول:
 ماذا ينبغي أن يؤخذ من الغرب وماذا يجب أن يترك ؟ كيف يستطيع العرب والمسلمون أن يقتبسوا من المدنية الغربية محاسنها ويحافظوا على تراثهم وخصائصهم ويظلوا عربا" ومسلمين؟ كيف يصبحون جزء" من العالم المتمدن الحديث بدون التخلي عن شخصيتهم التاريخية ؟ هل من الممكن التوفيق بين المفاهيم التقليدية السائدة في العالم الاسلامي وبين الافكار الرئيسيّة والمنبعثة من اوروبا الحديثة ؟
كذلك يضيف (محمد عابد الجابري) تساؤلا" آخر في ذات الموضوع وهو : كيف تحققت ثورتنا ...كيف نعيد بناء تراثنا؟
وما بين السؤالين المشروعين لباحث رصين ومفكر من الطراز الاول والذي حاول أن يصل الى قواعد التفكير في العقل العربي ( تكوين العقل العربي)، استوقفتني عبارات المفكر (فؤاد زكريا) ،وكما فهمتها من خلال كتابه المعنون: ( الصحوة الاسلامية في ميزان العقل ) اذ يرى : ان الجهل والخرافة لها النصيب الأكبر في الثقافة العربية، ليس على المستوى الفردي والساذج من الطبقة العامة فحسب، بل حتى الى اعلى المستويات الفكرية والاكاديمية، ويعتقد في خلاصة نتائجه وتقريراته ان الصراع قد انتهى لصالح العلم والنظريات العلمية.
 وما بين بلاد الشام والمغرب العربي وحضارة النيل التاريخية، أقف متأملا ومنقبا" وثقل مسؤولية البحث تتضاعف أمامي في فهم المشكلات العربية وتاريخها، قادما من الرافدين وسؤاله الجدلي ليكتب نصا عراقيا أدبيا" فلسفيا" يخرج من بواطن الأزمات المتراكمة سواء من الرافدين او ارض الخصيب او وادي النيل ،او بلاد المغرب العربي، ذلك المفكر العراقي مدني صالح ليرثي الثقافة وهو القائل :
اني قد وجدت ان الفهرسة الثقافية في القرن العشرين مقلوبة على الراس وتمشي الى الوراء فالعلماء والاُدباء والفنانون والساسة والاخلاقيون والمشرعون والمنهجيون وفلاسفة التاريخ يتحدثون عن الثقافة وهو يريدون المدنية او الحضارة او كلتيهما او كلتيهما ومعهما الثقافة ... وفي هذا مافيه من الخلط والإرباك والتشويش .
اعتقد هنا ان أُس المشكلات هو التجاوز على التخصصات وتداخل اليات المفاهيم العملية التي تحرر المفاهيم النظرية وتختبر قيمتها العلمية من خلال التجريب او الواقع العملي .
كثيرا ما يقرا التاريخ واحداثة المدونة التي برزت للسطح والظهور وجعلت من قلم المؤرّخ ان يتفاعل معها دون الاحداث الاخرى التي ساهمت في تكوينها، لكن القارئ او الهاوي الذي يبحث عن متعة قراءة التاريخ على وزن الف ليلة وليلة لم يلحظ او ينتبه للجزيئات البسيطة التي شكلت كل هذا الاستعراض الضخم. لان منهجية القراءة  عنده مختلفة وبعيدة عن التخصص القريب من علم التاريخ او الدولة او الحضارة، فلا يمكن ان تطلق الأحكام الكلية بمنطق القياس او التقابل ، هناك ضحايا كُثر للمسلمات التي غالبا" ما تكون مقدماتها المنطقية خاطئة وهناك الكثير من المقولات التي لا تعطيك اي جديد كالمقولات التحليلية التي تكلم عنها عمانويل كنط في كتابه ( نقد العقل المحض). هذه وتلك تم ممارستها وغرسها في العقل العربي ولعقود طويلة من الزمن حتى أصبحت ارض خصبة توارثتها الأجيال وباتت أصناما متعددة ومتنوعة، والمعول الفريد لهدمها صارت ضرورة لازمة لها.