الكاتب: الدكتور حارث حسن

اذا كان قرار فيسبوك وتويتر إيقاف حسابات ترامب قد عكس السلطة الواسعة التي صارت تتمتع بها شركات السوشيال ميديا في فلترة الخطاب ورسم الحدود بين المسموح والممنوع في المجال العام، يجب ان لا ننسى ان صعود ترامب والعديد من التيارات الشعبوية ما كان سيأخذ شكله الراهن بدون المنابر التي وفرتها السوشيال ميديا لتلك التيارات. هنالك خاصيتين أساسيتين في الشعبوية الراهنة غذاهما وجود "فيسبوك" و "تويتر" و "انستغرام" وغيرها، الأولى، ان الشعبوية تستفيد من العلاقة المباشرة بين الزعيم والقاعدة، خصوصاً عندما يأتي الزعيم – كما هو حال ترامب – من خارج المؤسسات الحزبية القائمة. لقد استخدم ترامب حساباته ليطرح نموذجه الخاص المنفصل وغير المفلتر حزبياً، والذي تعزز تأثيره مع احتلاله موقع الرئيس، وبهذه الطريقة فرض هذا النموذج على الحزب الجمهوري الذي يعيش اليوم معضلة كبيرة، فعليه الاختيار بين النأي بنفسه عن ترامب للحفاظ على ارثه كحزب مؤسساتي عريق وملتزم بالمؤسسات والمعايير والقيم الأساسية للمجتمع السياسي الأمريكي، وهو ما يعني خسارته للقاعدة الكبيرة من المتحمسين والمسيسيين الجدد الذين جاء بهم ترامب الى الحزب، او الالتحاق تماماً بترامب ونموذجه الشعبوي رغم ما صار يحمله من ميراث فوضوي وتدميري.

 

الخاصية الثانية للشعبوية التي غذتها السوشيال ميديا هي ازدراء المعرفة العلمية، والانجذاب للغرائبي والغرائزي، والتمرد على قيود ما يعرف بالصوابية السياسية، بحيث صار بإمكان أي شخص ان يطرح أي رأي ويخلق لنفسه قاعدة اتباع حتى لو كانت اراءه مجموعة من الخزعبلات ونظريات المؤامرة المضحكة التي تتبناها جماعة مثل QAnon الداعمة لترامب، او الفرق العنصرية التي اندفعت من هامش الحياة السياسية لتصبح جزءا من قاعدة دعم الرئيس. فكما ان السوشيال ميديا أسهمت في تقويض السلطة السياسية للعديد من المؤسسات والكيانات التقليدية، وسمحت بتسييس المزيد من الناس وتوفير منابر لهم، وبالتالي وسعت من مساحة النقاش العام وعدد المشاركين فيه، فإنها وفي الوقت نفسه اضعفت مؤسسات انتاج المعرفة وسلطة العلم والعقلانية وأخذت تعيد ادخال "الخرافة" و "الاساطير" الى مجال التنافس في صناعة الرأي العام، وبالتالي تقوض احد اهم أسس الليبرالية الغربية: العقلانية.