الكاتب: نضال منصور

الشهادة ( 3 )

 

نضال منصور صحفي عربي من الاردن أسس مركز حماية وحرية الصحفيين منذ عام 1998 كمؤسسة مجتمع مدني عربية تعنى بالدفاع عن الإعلام وتطوير احترافه المهني.

منصور كانت له وقفة مختلفة ونظرة من زاوية بعيدة ومسؤولة لملتقى الرافدين الذي خَتم اعماله في التاسع والعشرين من أيلول الماضي في بغداد ، وكما يأتي :

 

ليبيا على فوهة البركان

نضال منصور 

 

العالم يتغير، والعالم العربي ليس استثناء على هذه القاعدة، وبعد عقد من الزمان على ما سمي "الربيع العربي"، وسقوط رهانات كثيرة، فإن الأسئلة كثيرة عن ما يحدث، ويتطور على أرض الواقع، وهناك محاولات، وهواجس لقراءة ما هو قادم. 

كلفتني إدارة ملتقى الرافدين -التظاهرة الحوارية الأهم، والأكبر في العراق- بإدارة جلسة تحت عنوان "أزمات المغرب العربي (تونس وليبيا).. جدليات الصراع ورهانات  المستقبل" ، كنت أتوق أن أعاين واقع المشرق العربي فربما فضاء أقرب لي، ولكن معرفتي الوطيدة بتفاصيل المشهد التونسي، واقترابي من التطورات في المغرب شجعتني للاقتراب أكثر. 

أول التساؤلات التي استوقفتني هل يمكن الحديث عن وحدة حال للمغرب العربي؟، هل تتشابه التحديات، وطبيعة البنى السياسية، وأنماط الاشتباك المجتمعي؟. 

هذا السؤال يبدو أساسيا ومفصليا، والواضح أن المغرب العربي الذي تجمعه قواسم مشتركة كثيرة، يُظهر الواقع أيضا، والسياق السياسي أن أزماته متباينة كثيرا، فالواقع الذي تمر به ليبيا لا يمكن أن تكون له مقاربة في كل الدول المغاربية، بما فيها تونس التي كانت فاتحة التحولات في الربيع العربي. 

تفكيك المشهد ، وقراءة جدليات الصراع في كل من ليبيا وتونس يمكن أن يساهم في استجلاء الصورة أكثر، والحقيقة كلما اقتربت من الوضع الليبي محاولا فهم من يتصارع مع من؟، وجدت فسيفساء الصراع معقدة، ومتشابكة، وتتداخل بين أنماط القوى القبائلية، والمليشيات العسكرية، التي لا تنفصل دائما عن الحالة العشائرية أو القبلية، والجغرافية، عدا عن الاستقطابات الدولية، والإقليمية لقوى الداخل الليبي، وتجنيدها لخدمة أجندتها، ومصالحها، واللافت أن الحالة الليبية مثل الرمال المتحركة، لا تتسم بالثبات، وخصوم الأمس قد يصبحوا حلفاء اليوم. 

عشر سنوات مضت سقط خلالها الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، ومات في المنفى السعودي، وقُتل فيها الزعيم معمر القذافي بشكل عنيف، ومهين، ولم يتغير الكثير، والمخاض مستمر، والرهانات على ولادة الديموقراطية، سطعت قليلا ثم خبت. 

تونس التي كانت نموذجا للتحول الديموقراطي أنجزت تجربة في التقدم خطوات نحو الإصلاح، والدمقرطة، دون دماء، وتعثرها، وسيطرة الرئيس قيس سعيد على السلطات منفردا، والانقلاب على التجربة السياسية التي امتدت لعقد، يعود في مقدمة أسبابه إلى فشل الطبقة السياسية التي تعاقبت على الحكم بمختلف أطيافها على تقديم حلول للشارع الذي طحنته الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، ووجد أن الأحزاب الحاكمة التي تدثرت بالديموقراطية الوليدة كانت تستجلب مصالحها قبل مصالح الشعب. 

أزممة تونس الداخلية، وصراع الأحزاب السياسية على السلطة لا يعني أن التجاذبات، والمصالح الدولية، والإقليمية لم تكن طرفا في المآلات التي وصلت لها تونس. 

المقاربة التونسية منذ بداياتها وحتى ما انتهت إليه، تبتعد كثيرا عن الحالة الليبية التي  شهدت حروبا، واقتتالا منذ سقوط القذافي، ورغم الخطوات الإيجابية التي عاشتها طرابلس في السنوات الأولى التي لحقت الإطاحة بالنظام السياسي، إلا أنه سرعان ما تحولت الجغرافية الليبية إلى دويلات متناحرة، ورغم مرور عقد من الزمان فإن أيا من السلطات أو القوى المتصارعة لم تفرض سيطرتها، أو شرعيتها على كامل التراب الليبي. 

حكومتان في ليبيا ليس حالة جديدة في العقد الماضي، وكل منها تحاول أن تفرض شرعيتها، وكل منها يعتمد على تحالفات تثبت أقدامه على الأرض، وما محاولة السيطرة العسكرية على طرابلس شهر أغسطس الماضي إلا محاولة لبسط الشرعية الأحادية بالقوة، ولولا الطائرات المسيرة التي تملكها حكومة عبد الحميد الدبيبة بدعم تركي، لاستطاعت حكومة فتحي باشاغا المكلفة من البرلمان من السيطرة على طرابلس دون منازع. 

فشلت حتى الآن معارك حسم الشرعية، وكل طرف يتحين الفرصة المناسبة لتوسيع نفوذه، ودوره، ويقدم نفسه للمجتمع الدولي بأنه القادر على إنقاذ ليبيا من دوامة العنف، والصراع، والقادر أيضا على تأمين مصالحها الاقتصادية، والحقيقة أن الملف الليبي بعد الحرب على أوكرانيا لم يعد يحتل أولوية، والصراع في أوكرانيا خطف الأضواء، والقضية الليبية تتعرض للإهمال، والآجال الزمنية للتفاهمات الدستورية، وإجراء الانتخابات تمضي دون تنفيذ. 

التدقيق في المشهد الليبي يدفع للسؤال، هل الأجندة الداخلية، وبناء تفاهمات بين الفرقاء المتصارعين على السلطة باختلاف أيديولوجياتهم هو الأساس، والمحرك لكل المسارات السياسية؟، أم أجندات العالم الخارجي هي من يبني السيناريوهات في طرابلس؟ 

الحرب في أوكرانيا تشي إلى استنتاج أن التأثيرات الروسية قد تراجعت، فهي منشغلة، ومستنزفة في حربها، ولكن من غير المؤكد أن القوات الأجنبية قد انسحبت من الأراضي الليبية كما أشيع، ولا يُعرف مثلا ما هو مصير قوات "مجموعة فاغنر" الروسية، والتي تعرض دورها لانتقادات شديدة، ووصفت بالمرتزقة، وما ينطبق عليها ينسحب على العديد من القوات، وأجهزة المخابرات التي تتحرك بحرية على الساحة الليبية. 

تركيا، ومصر هما اللاعبان الأساسيان على أرض الملعب الليبي، والمؤشرات تقول أن الأدوار الدولية والإقليمية الأخرى تراجعت طوعا، وتنسيقا، أو قسرا لأن قدرتها على التأثير هامشية، ومحدودة، وما لا يمكن تجاهله أن الدور المصري سياسيا ، وأمنيا في ليبيا يمتد لعقود سابقة، ومصر لا يمكن أن تترك طرابلس لقمة سائغة لاحد، أو ساحة خلفية تلعب فيها دول وأجهزة أمنية بالضد من رؤيتها، ومصالحها، وتستطيع من خلالها تهديدها، وفي المقابل الحضور التركي "الأخطبوطي" تمدد بعد الربيع العربي، وبعد سيطرة جماعات الإسلام السياسي على الحكم في دول عربية، والتي وجدت في سلطة الرئيس أوردغان البرجماتية ، والتي ترفع شعارات "الإخوان المسلمين"، وتُغازلها ، وتطرح حماية الإسلام السني ، حليفا، وملاذا. 

ملخص الحالة أن خارطة المصالحات السياسية الإقليمية قد غيرت واقع المشهد الليبي، وأهمها التقارب المصري التركي، ويلي ذلك إغلاق ملف العداء التركي الإماراتي، والتفاهمات الروسية التركية، وهذا الوضع الناشئ زاد من حالة الاستبشار بفرص نجاح المسار السياسي، وحقن الدماء. 

التفاهمات المصرية التركية قد تدفع إلى الواجهة حلولا توافقية، أولها تشكيل حكومة مصغرة، ومؤقتة تضم الأطراف المتصارعة، مهمتها الإعداد للانتخابات بما يتوافق مع استحقاقات دستورية، وتسعى الدولتان لتمرير هذا السيناريو كخيار أفضل، وإن لم ينجح ويكون له فرصة، يمكن التقدم بمقترح آخر بدمج الحكومتين القائمتين والمتصارعتين،  مع تعديلات يتفق عليها هنا وهناك، أو تقبل أي منهما بالانسحاب المؤقت، والخروج من المشهد لتذليل مشكلة مقابل ضمانات ،ومكاسب سياسية. 

القاهرة وأنقرة فتحت قنوات للحوار، وتسعى لتجسير حدة الخلافات، والصراعات، وهما على الأرض يسيطران إلى حد كبير على القوى الموالية لهما، ويمكن أن يصنع تفاهما أثرا مختلفا، والمتفق عليه أيضا لا شيء في السياسية مضمون، وفي لحظة معينة إذا فشلت كل سيناريوهات الحل، فإن الخيار الأخير، والكارثي، والأسوأ العودة للاقتتال والحرب، وهو ليس بعيدا، فالمحاولات الأممية فشلت في لجم الصراع بعد عقد من الزمان، والعديد من القوى الإقليمية والدولية، كانت تصب النار على الزيت خدمة لمصالحها. 

على مسافة ليست بعيدة من القاهرة تحاول خلية الأزمة في الجزائر أن تبني تصورا، وتقدم مبادرة للإنقاذ في ليبيا، تكون منطلقا لتحرك عربي توافقي في القمة العربية التي ستنعقد في الجزائر شهر نوفمبر القادم. 

حتى وقت قريب كانت الجامعة العربية غائبة عن الملف الليبي، ودورها مفقود، ولا تُذكر كطرف فاعل يسعى لاحتواء الأزمة في طرابلس. 

على ما ببدو فإن الجزائر بالتنسيق مع القاهرة تسعى للدخول على الخط، وتملك كجار كبير لليبيا معرفة واسعة في تفاصيل المشهد، وتملك إمكانيات، ونفوذا للتدخل تحت يافطة، وتفويض عربي. 

مآلات المغرب العربي لم تحسم بشكل نهائي، وإن كانت دول: المغرب، الجزائر، مورتانيا، خارج سياق الاضطرابات، وخطوا مسارات مختلفة بعيدا عن الصراع، وتبقى تونس تحت الاختبار، والضغط، والمكاسرة  مع الرئيس قيس سعيد مفتوحة على كل الاحتمالات، في حين أن ليبيا بين التفاؤل بفرص الاتفاق والحل، أو الإخفاق، والفشل،  تظل متأرجحة وعلى فوهة البركان.