يقف العراق اليوم امام منزلق خطير بسبب غياب السياسات الاقتصادية الواقعية وعدم وجود برنامج اصلاح اقتصادي، نتيجة للواقع المربك من انخفاض اسعار النفط وما ترتب عليه من ازمة مالية كبيرة وضعته في دوامة العجز المالي.
وحمل البعض لجان البرلمان الاقتصادية والمالية المسؤولية لعدم اتخاذها الحلول الواجبة لكل ما تراكم خلال المرحلة السابقة وعلى مختلف الصعد، فضلا عن مشكلة عدم توفر ادارة مالية ناجعة منذ عام 2003.
وفي هذا السِياق؛ أبدى السادَّة أعضاء مركز الرافدين للحِوار R.C.D رؤيتهم، من خِلال النِقاش الذي دَار بينهم حول هذا الموضوع، وقد كان من ضِمن المُتحاورين كُل مِن السادَّة:

1. الدكتور يوسف الطائي| عميد كلية الادارة والاقتصاد/ جامعة الكوفة
2. الدكتور علي البغدادي| باحث واكاديمي
3. الاستاذ عبد الكريم الحميري| صحفي
4. الاستاذ فرهاد علاء الدين| رئيس المجلس الاستشاري العراقي
5. الاستاذ ثائر الدليمي| رجل اعمال
6. الاستاذ عبد عوض| مستشار محافظ صلاح الدين
7. الاستاذ ماجد الساعدي| رئيس مجلس الاعمال العراقي في الاردن

 

وتضمَّن الحِوار الذي دارَ بينهُم ما يأتي: -

المداخلة الاولى للاستاذ عبد الكريم الحميري‏: تطرق فيها الى دور لجان البرلمان الاقتصادية والمالية طيلة الدورات الاربع الماضية، متسائلا الم تكن هذه النتيجة البائسة والخطرة متوقعة على العراق ؟ اذ ان مؤشرات السياسة النقدية كانت جدا" واضحة الى مآل الامور .

الم تكن اللجان الاقتصادية معنية بمراقبة تنفيذ اداء الحكومات لإيجاد مصادر متعددة للدخل !؟ الكل يتبرأ الان وتراشق التهم اصبح هو السائد هذه الايام.

طبعا".. الاجابة جاهزة ومغلفة ومنمقة " الوضع الأمني".

 

واما المداخلة الثانية للدكتور علي البغدادي قال فيها: ان التحجج "بالوضع الامني" تعني الهروب من الواقع الذي نمر به ودفن للرأس بالرمال، فالموظف البسيط لا يعرف هذه التعقيدات فهو ينتظر راتبه الذي يذهب أغلبه الى خدمات اهلية وحكومية ومصاريف عائلية، وان تأخر الراتب يدفعه الى ان يقترض!! ولكن من اين يقترض ؟؟ من الموظف الاخر الذي حاله من حاله؟؟ او من البنك وبفوائد كبيرة جدا؟!

الان يمكن ان يصرفون وفق نظام ١/١٢ لان الرواتب تشغيلية وليست استثمارية وممكن السحب على المكشوف من قبل الحكومة وعشرات الاجراءات السريعة لحل معضلة الرواتب... وبالمناسبة الاشهر التي تأخر فيها الراتب لم يعوض الموظف وعليه سوف تكون السنة 2020 ...عشرة او تسعة رواتب فقط.

 

وقال الاستاذ عبد الكريم الحميري‏: للاسف دائما مضطرون لاستنباط الدروس الاقتصادية والمالية وحتى الاجتماعية لحقبة ما قبل ١٩٥٨ .. حين كان العراق عزيزا" مهابا" واقتصاده يتفوق على اقتصادات كثير من الدول العربية .. بسبب الاخلاص الوطني والغيرة على البلد وبراعة التخطيط وحسن وصلادة التنفيذ.

من المعيب ان تصبح الرواتب معضلة دولة وتكون الشغل الشاغل فقط. تخرجنا عام ١٩٧٩ واختلقنا مختلف الطرق للتهرب من الوظيفة التي الزمتنا بها وزارة التخطيط لكل الخريجين !!!. عزوف جماعي آنذاك من الالتحاق بالوظيفة تلك الايام ! مالذي جرى حتى تكون الوظيفة هي المبتغى والهدف والطموح ؟؟ ارجو استنباط العبرة من هذه الملاحظة وعكس هذا الموديل على هذه الايام .

والمفروض ان الاقتصاد يتطور استجابة لمتطلبات الحياة ودواعي الرفاهية الاجتماعية !!. المفروض عام ٢٠٣٠ يكون اعتماد الاقتصاد العراقي على النفط والغاز لا يتجاوز الـ 25% بأي حال من الاحوال .. اذن من العام القادم على الخطط الاستراتيجية العمل على تطعيم الدخل القومي العراقي بما لا يقل عن 7.5% سنويا" وهي ليست بمعجزة ابدا". ولنا في التجربة التركية والصينية امثلة حسنة للاستشهاد بها.

 

تعقيبا على المداخلة اعلاه قال الدكتور علي البغدادي: لأنها اصبحت ثقافة مع ضياع القطاع الخاص ووظائفه الاساسية التي تبني اقتصاد السوق وكذلك اضمحلال الكثير من الاقسام العلمية اكاديميا لانها لا تنتج عمالة يحتاجها العمل الحكومي او الخاص لترهل الاول وضعف الثاني.

وحول الفساد المستشري يرى الاستاذ ثائر الدليمي: بأنه لو كل موظف قام بواجبه بما يرضي الله وضميره لما وصلنا الى هذه المرحلة ، فموظف (الرقابة المالية ، موظفي الرقابة على الصيرفة والائتمان في البنك المركزي، مخمني المنافذ الحدودية ، اعضاء لجان المناقصات ، موظفي البلديات ، موظفي التحصيل ، موظفي الاوقاف ، موظفي و منتسبي دوائر مكافحة التهريب ، شرطة النفط ، موظفي هيئة النزاهة........ الخ)، فهذا الفساد المستشري و المتلاقح مع الجهل في ادارة الدولة ادى الى  هذا التضخم بالقطاع الحكومي غير المنتج قبالة انحسار نشاط القطاع الخاص بسبب هيمنة القطاع الحكومي على مختلف نشاطاته لجهة ابتزازه من قبل الذين لا يخافون .

و الحديث يطول و لكن الحل بسيط لدى الخبراء الحقيقين و ليس المدعين ، و اعتقد وزير المالية الحالي و الفريق العامل معه يعرفون كيف يتم الحل ، صحيح انه حل قاسي و لكن حاله حال اجراء اية عملية جراحية و على الجميع ان يتحمل بدل سياسة التهويش و التي سوف ستكون نتائجها كارثية اذا ما استمر الحال على ما هو عليه .

 

وتعقيبا على كلام الاستاذ ثائر الدليمي اوضح الاستاذ عبد عوض في مداخلته بان الموظف يحتاج قيادة توزع الواجبات والمهام و تحاسب على تقصير من يقصر وهذه طبيعة الانسان بالفطرة وهذا أساس بناء الدول وبغير ذلك تصبح الوظيفة عادة يومية ( الخروج بداية النهار و العودة ظهراً والراتب رأس الشهر والإنتاج صفر او اعلى بقليل).

 

ويرى الاستاذ عبد الكريم الحميري‏: بان الاقتصاد الخاص العراقي بامكانياته المحدودة استراتيجيا" ليس قادر على القيام بالدور المنشود كقاطرة تسحب قطار الاقتصاد الى مناحي واهداف جديدة .. المطلوب بناء استراتيجي عالي المستوى جدا" ولفترة لا تقل عن عشرة سنوات.

 

واما الاستاذ ثائر الدليمي تطرق في مداخلته الى دور الدكتور احمد الجلبي (رحمه الله)  خلال ترأسه اللجنة المالية وخبرته، قائلا بأنه لم يأتِ احد في اللجنة المالية ليكون بحجم هذه المسؤولية العظيمة ، مضيفا هناك خبرة جيدة للسيدة ماجدة التميمي ولكن للاسف لم تعط حقها لتأخذ دور الريادة في هذا المجال .

تعطيل اقرار مجلس الاتحاد وحسب نص الدستور الذي اشترط ان يكون حصراً في الدورة الاولى للبرلمان ، و كذلك عدم مراعاة المادة ( ٩ ) من الدستور العراقي ادت الى تعظيم حالة اللا دولة التي باتت تدار بواسطة مهربجية النفط و الدولار قبالة تأسيس الدولة التي تحتكر السلاح و تتمتع بقضاء عادل و فعال، تسري احكامه على الامير و الغفير دون استثناء هل كل المسؤولية على المسؤولين فقط، الموظفين (المرتشين ، ومزوري الشهادات ، ومتعددي الرواتب، والفضائيين...... الخ) الموظف لو عمل بما يرضي الله و ضميره ، لأوقف المسؤول في مكانه و منعه من التمادي .

شباب عزل و بدون صلاحيات، بعمر الورود تجمعوا بساحات التحرير المباركة اسقطوا حكومة وينتزعون المطالب الشرعية واحدة تلو الاخرى .

 

وعلى صعيد الجانب الصناعي قال الاستاذ عبد الكريم الحميري‏: دعونا نعترف بأن لا صناعة في العراق رغم فداحة هذا الاعتراف وحسرته. كل ما لدينا هو اطلال مصانع بنيت في سبعينات القرن الماضي واصبحت old fashion اي خارج العصر لتقادم المكائن وانتهاء عمرها الافتراضي التصميمي ولكون منتجاتها ( ان كانت تنتج) غير مجدية اقتصاديا" من حيث الكم والنوع .

والطامة الكبرى الاضافية هي البطالة المقنعة لموظفي هذه المنشآت وكلف رواتبهم الباهظة وتأثيرها المضاعف على كلف الانتاج وبالتالي عدم القدرة على المنافسة الموضوعية !

برأي المتواضع يجب البدء بتنويع الانتاج الزراعي الكمي وتعشيق هذا الانتاج مع صناعات تحويلية بخطوط انتاجية حديثة جدا تراعي المعايير الدولية وهو ما فعلته الصناعة السعودية قبل اكثر من ثلاثة عقود. أما الصناعات الاستراتيجية والثقيلة .. فتكون بتخطيط من الدولة وتطرح كمشاريع استثمارية فيها الكثير من التسهيلات العالية للاجتذاب الفوري من قبل العراقيين والاجانب .. ليكون الهدف الاسمى هو القضاء على فايروس الاستيراد .. اولادنا أولى بفرص عمل المصانع التي تبيع منتجاتها في سوقنا.

 

من جانبه اكد الدكتور يوسف الطائي بان الحكومة تتحمل كل شيء،  اغلب السنوات السابقة كانت تقشف وحرب مع داعش ووصل سعر البرميل اقل من 15 دولار وعقود الاجل تحت الصفر ولكن الرواتب لم تمس!! لماذا الان الرواتب تأخرت والخزينة خاويه برغم بيع النفط بأكثر من 35 دولار وكل المصاريف غير الضرورية توقفت والمنافذ سيطرت عليها الدولة وحذف الرواتب المزدوجة و الفضائيين ورواتب رفحاء وتقليل نفقات كل الوزارات ولا يوجد تعيين جديد، اين يكمن السر يا ترى؟!

لقد تم توفير الرصيد في الشهر الخامس لتغطية كافة الرواتب، ولعدم وجود رؤيه استراتيجية واضحة في الفلسفة المالية قادت البلد الى خلق ازمات مالية من الممكن تجاوزها لو كانت هنالك استشارة ذكية ومستشارين اقتصاديين اذكياء ولكن الحقيقة أثبتت ان العراق بلا قياده استراتيجية (وحتى اللي ياكل صار جوعان والي يثرد كام يثرد بصف الماعون )

 

الاستاذ ماجد الساعدي: المشكلة اننا لم نتوفق في ادارة مالية جيدة لمواردنا  منذ ٢٠٠٣ ولليوم والتعامل مع هذا الملف الخطير لم يأخذ حقه من الحكمة والتخطيط والتوقعات المستقبلية، فكما لاحظنا عند ارتفاع اسعار النفط وزيادة الايرادات ترتفع نسبة التعيينات والمصاريف الحكومية والمشاريع الوهمية او غير المدروسة بشكل ملحوظ وعند انخفاض اسعار النفط يلجأ المسؤولون عن الملف الى التقشف والاقتراض واللطم على الحظ المتعثر .

الدول لا تبنى بهكذا سياسات لا تأخذ المستقبل بجدية وليس لديها احصائيات عن الزيادات السكانية التي يرافقها ارتفاع الحاجة للمدارس والمستشفيات والخدمات والوظائف . كل الافعال التي شاهدناها هي ردود افعال عن زيادةً او نقصان سعر النفط .

 

الاستاذ فرهاد علاء الدين ان ابقاء أبواب الفساد مفتوحة على مصراعيها في اغلب مؤسسات الدولة، والتواني عن كبح جماح حيتان الفساد وفي مقدمتها الأحزاب الحاكمة ذاتها، وعدم الغاء مكاتبها الاقتصادية للحد من سيطرتها على الوزارات والمؤسسات والقطاعات الحيوية كفيلة باستمرار تفاقم مخاطر وتهديدات الوضع المالي الراهن، ما يعني أن العراق ماض نحو انهيار حقيقي، ولا يحول بينه وبين هذا الانهيار سوى أشهر معدودات فحسب. وبانهيار الوضع المالي والاقتصادي كما هو متوقع، فان العملية السياسية ستنهار هي الأخرى، ليلحقها انهيار كيان الدولة العراقية، وبالتالي تعم الفوضى، وحينذاك لن يكون بمقدور أحد إعادة ضبط الوضع والسيطرة عليه من جديد إلا بمعجزة ستكون صعبة المنال والتحقق.

أن ما يزيد من حدة التشاؤم هو أننا نعيش في مجتمع متعدد الأجنحة ولاء وتسليحا مع فقدان السيطرة على توجيه البوصلة لصالح استقراره بالظروف الطبيعية فما بالك في ظروف الافلاس والتنازع السياسي وشح الموارد وفقدان قوت الشعب.

نحن أمام الفرصة الأخيرة وليس أمام القوى السياسية سوى المبادرة لتصحيح المسار والتوافق على أتخاذ قرارات شجاعة ومسؤولة لتدارك أسوء السيناريوهات الكارثية المحتملة.

 

الاستنتاجات:

1-         الوضع المالي الذي تمر به الدولة العراقية هو الأكثر حراجة بعد 2003 بحيث تحول الحديث عن تطوير القطاع الخاص والابتعاد عن الريع وتعظيم الموارد الى الحديث عن دفع الرواتب وهي مسألة روتينية في عمل أي دولة.

2-         عدم تفعيل التشريعات او الخطط الحكومية لتعظيم موارد الاقتصاد طيلة السنوات السابقة أدى الى هذه التراكمات الخطرة والتي يمكن لتداعياتها ان تهدد العملية السياسية برمتها.

3-         يحتاج تطوير الاقتصاد العراقي الاخذ بالحسبان بالتطور التكنلوجي العالمي، ولا يمكن (لانقاض) المصانع الموجودة ان تساير ذلك التطور بحيث توفر إنتاجية حقيقية  تساعد على النهوض الاقتصادي.

4-         لايزال استشراء الفساد حاضرا ومعرقلا لكل محاولات التصحيح والتطوير، ومالم يتم القضاء عليه فأن امال الإصلاح تبقى ضئيلة في ظل تراكمات وتركات ثقيلة.

5-         يحتاج العراق الى تطوير الموارد البشرية في الجانب الاقتصادي سواء في التخطيط او التنفيذ، فاذا لم تكن الموارد البشرية مؤهلة بصورة كافية فلا يمكن ان يتطور الاقتصاد العراقي ولا عندها تعظيم موارد البلد.

قراءة / تحميل