الكاتب: أرحمة صدّيقة

الشهادة ( 10 ) 

 

نشرت صحيفة إكسپرس تريبيون الباكستانية مقالاً للباحثة في مركز الدراسات الاستراتيجية الباكستانية التابع لوزارة الخارجية الباكستانية أرحمة صدّيقة حول مشاركتها في ملتقى الرافدين RCDFORUM2022  والذي انهى اعماله نهاية ايلول - سبتمبر الماضي في بغداد.

 

صديقّة محللة سياسية مختصة بالشرق الأوسط وخريجة جامعة لاهور للعلوم الإدارية (پاكستان) وجامعة وارِك (بريطانيا).

 

أرحمة صدّيقة

 

في السادس والعشرين من أيلول انحدرت الطائرة باتّجاه مسار الهبوط في مطار بغداد الدولي، فوجّهت بصري إلى المدى الذي يمتدّ إلى الأسفل. وعدتُ إلى أولى ذكريات ما عشتُهُ في هذه المدينة في العام (2003)، ولم تكن ذكرى محبّبة، فلا أزال أتذكّر بوضوح صوت المؤذّن وهو ينتحب في الأذان مع القنابل التي كانت قوات التحالف الأمريكي تمطرها في كل مكان. وكانت تلك الزيارة هي أولى الزيارات التي قمت بها إلى المدينة التي احتضنت ملتقى الرافدين للحوار 2022، والذي انعقد هذا العام تحت شعار (العالم يتغيّر).

 

ومن المفارقة ما بدا لي من أنّه لم يتغيّر شيء في العراق، إلا إذا أخذنا بالحسبان ما يمرّ به البلد من تدهور سريع على جبهات عّدة. ولن يكون من الخطأ القول بأنّ شعب العراق لم يتعافَ قطّ من البحث الأمريكي "الوهمي" عن أسلحة الدمار الشامل، وأنّه أصبح عوضًا عن ذلك يتلقّى النكسة تلو الأخرى: داعش، والحروب بالوكالة، والفساد المحلّي، من بين الكثير غير ذلك.

 

ولقد توصّلت خلال رحلتي إلى ثلاثة استنتاجات، وأوّلها أنّ الفوضى مفيدة للاستثمار، وأنّها تُستخدَم كأداة لتبرير الحاجة إلى المزيد من الإنفاق الدفاعي؛ ولا شكّ أنّ هذا يؤدّي بدوره إلى إعانة الأطراف الفاعلة التي تنتفع من الحروب، لأنّ ألفباء إنتاج الأسلحة وتجارتها تتمثّل بالمصالح التجارية التي تفتقر إلى بعد أخلاقي. ومن المعروف أنّ الشركات والحكومات تربح المليارات سنويًا من تجارة السلاح العالمية. ويبدو أنّ العالم المعاصر يعمل على أساس البروباغندا والأوهام البصرية والخداع والكذب.

 

أمّا الاستنتاج الثاني فهو أنّه ليست هنالك، في سياق المسار العام للأحداث، أهمّية لإحراق العشرات من النساء لأنفسهن؛ فالصراع متعدّد الجوانب عندما يتعلّق الأمر بالمرأة، فهو يعني الانفصال، وفقدان الأسرة، وانعدام الأمان الجسدي والاقتصادي، وتنامي خطر العنف الجنسي والأذى البدني والاعتقال والحرمان، ويضاف إلى ذلك دون شكّ: الموت المحدق بها دائمًا. ولقد تواصلتُ مع مسيحيين آشوريين هربوا من الموصل عندما استولى عليها تنظيم (داعش)، وأصبحت الآن أحمل اعتقادًا قويًا لا شكّ فيه بأنّ المرأة والطفل سيكونان دائمًا من يتحمّل مسؤولية الخروج من المناطق الحربية، وأنّهما هما من يحافظان على تماسك الأسر والمجتمعات أكثر من الرجل بكثير؛ وأنّهما إذا توفّرت لهما الفرصة فهما اللذين سيتوجّب عليهما أن يعيدا بناء حياة الناس من أجل البدء مجدّدًا.

 

وأمّا الاستنتاج الثالث فهو أن التكامل خرافة؛ فهو سراب يحب الجميع أن يتكلّموا بشأنه بلا نهاية، ولكن دون أن يكون بينهم من يستعدّ لتطبيقه. وفي الشرق الأوسط على سبيل المثال، يزخر هذا الجزء من العالم بالنفط وموارد طبيعية أخرى، وهو منطقة ذات أهمّية جيوستراتيجية للكثير من اللاعبين، ولكن مستوى التجارة البينية في هذه المنطقة هو من أدنى المستويات على صعيد العالم. ولقد أدّى هذا التكامل المحدود إلى إعاقة الإمكانيات العظيمة للمنطقة في مجال النموّ الاقتصادي، وأثّر بالتالي على الفرص المتاحة للقاعدة الشبابية المتنامية.

 

لقد دأبت نظرية العلاقات الدولية على تقديم مبرّرات التفاؤل طوال سنين، وعلى سبيل المثال: يحاجج الليبراليون بمعقولية التعاون في عالم تمزّقه الحروب، ولكن يكفي القول بأنّ نظام ما بعد الحرب الباردة لم يعد قائمًا، إذ تحوّلت القطبية الأحادية إلى قطبية تعدّدية بظهور العديد من القوى الإقليمية على الرقعة السياسية. وعلى الرغم من تصاعد حدّة التوتّرات الجيوسياسية، يوجد حاليًا تكافل معقّد متزامن لم يعد الانعزال خيارًا ممكنًا في ظلّه.

 

وفي الحقيقة، إنّ الصلة بين الاقتصاد والأمن ستحدّد المستقبل، وهذا يعني في جوهره أنّ قوة العجز والدَّين العام والتوجّهات الاقتصادية ستساعد على تشكيل البنية الأمنية. وفي بيئة كهذه سيؤدّي السماح بعدم فرض القانون أو التغاضي عنه، وترك الضحايا دون حماية، إلى إرسال رسالة سلبية لعموم السكّان مفادها أن النظام الجديد إمّا غير مستعدّ لفرض قوانينه وقيمه المزعومة وإمّا يعجز عن ذلك، وعندها تحين اللحظة التي يقرّر فيها الناس إدارة الأمور بأنفسهم وتنطلق عجلة الدمار.

 

ومن الآن فصاعدًا، وفي هذه الرقعة التي لا يمكن التنبّؤ بمساراتها، إذا كان لا يمكن تحقيق المساواة فمن الممكن (بل الواجب) تحقيق الإنصاف.